وردني الشهر الماضي اتصالٌ كريم من الإخوة الفضلاء في جمعية تواصُل للتنمية الأهلية بالدمّام، يحمل نبرةً من الودّ وينضَحُ بروح المبادرة. عرضوا فيه — بأدبٍ جميل وخطابٍ رقيق — أن أكون المتحدّث في برنامجهم الثقافي القادم الذي دأبت الجمعية على إقامته بين الفينة والأخرى، تُحيي به العقول، وتُنعش به الأرواح، وتُؤصّل به قيمة اللقاء العلمي في الحياة الاجتماعية. فاستجبتُ للدعوة شاكرًا رُقيّ الطرح وطيب المقصد، واتفقنا أن يكون الحديث عن التعليم في المملكة، ومسيرة نموّه وثمار عطائه منذ البدايات وحتى ما بلغه اليوم من نضجٍ وازدهار.
ولمّا حان الموعد في يوم الثلاثاء 13/5/1447 هـ الموافق 4/11/2025 م غادرتُ الرياض إلى الدمّام، وقد حفّزني الشوق إلى لقاءٍ أظنّه مختلفًا؛ لقاء مع مجتمعٍ يتقن فنّ السؤال، ويُحسن استقبال الفكرة، ويأنس بصوت المعرفة. وما إن بلغتُ حيّ الجامعيين حتى استوقف بصري مبنى الجمعية؛ بناءٌ فخمٌ مهيب، له طلعةُ المؤسسات الرائدة التي لا تخطئها العين. واجهته البهية تُومض بما في داخله من جِدٍّ وهِمَّة، والدخول إليه يُشعر الداخل بأن العلمَ هنا ضيفٌ مُكرّم لا عابر سبيل.
وفي صالة الاستقبال وجدتُ نخبةً نبيلة من القائمين على الجمعية؛ رجالاتٌ سمت أخلاقهم قبل كلماتهم، هشاشة وبشاشة، يُعرِّفون بأنشطةٍ تفيضُ نُبلًا ورقيًّا: برامج اجتماعية، رياض أطفال، دورات توعوية، مبادرات تثقيفية، مجالسُ حوارية، واهتمام دؤوب برفع وعي المجتمع، والسموّ بذائقته المعرفية. هنالك أحسستُ أنني أمام جمعية لا تصنع الفعل فحسب، بل تصنع الأثر.
وبعد صلاة المغرب تتابع حضور أهل الحي، فإذا هم صفوةٌ من الرجال في وجوههم إشراقة التحية، وفي أعينهم تَوّْقٌ واضحٌ إلى الزاد الفكري. كانوا يجلسون بطمأنينة الباحث عن علم، لا رغبة المجاملة ولا عادة الحضور. ورأيت فيهم صورة ذلك المجتمع السعودي الأصيل الذي يجمع بين حسن الضيافة وحسن الاستماع.
ابتدأتُ حديثي فاستعرضتُ قصة التعليم في المملكة؛ جذوره الأولى في عهد الملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله، وتعاقب أبنائه البررة على رعايته من بعده حتى غدا هذا الجيل يعيش نهضة تعليمية تُعدّ أعظم مفاخر الوطن.
وتحدّثت عن قصة التنمية، والمبادرات الوطنية الكبرى، وعن الجهود الصامتة التي بُذلت في سبيل إعداد الإنسان السعودي ليكون شريكًا في نهضة بلاده. وكان الحضور — وكأنما على موعدٍ مع الموضوع — يُثري المجلس بمداخلاتٍ ناضجة وأسئلةٍ تنمّ عن وعيٍ وثقافة، فغَدَتِ الجلسة مزيجًا من المدارسة المعرفية، والانتماء الوطني، والتأمل في مسيرة الوطن، وشعرت أن المجلس لم يكن مجرد لقاء، بل كان احتفاءً جماعيًا بقيمة التعليم وقادة الوطن التي أولته الرعاية والإنفاق والعناية.
لقد كرَّمتني الجمعية — أحسن الله إليها — حين أتاحت لي فرصة الوقوف أمام هذا الجمع، وأدهشتني بما رأيتُه من تنظيمٍ دقيق، واهتمامٍ كريم.
إنها حقًا جمعية تُحسن تمثيل العمل الأهلي، وترفع من شأن الثقافة، وتدلّ على أن المجتمع حين يحتضن الفكر يضيء.
وقد حملتُ معي عددًا من كتبي إهداءً للحاضرين، وتركتها عند مدخل الصالة، وما أن انفضّ المجلس وبعد صلاة العشاء حتى رأيت بين أيدي بعض الكرام تلك الكتب وقد أخذوها بشغفٍ صادق. هنالك قلت في نفسي: حيٌّ يلتقط الكتاب حيٌّ يستحق أن تُزهر فيه الثقافة.
خرجتُ من عندهم وودعتهم وأنا ممتلئ الامتنان، وقد ازددتُ يقينًا أن الجمعيات الواعية — كهذه الجمعية المباركة — هي سواعد المجتمع الخفية التي تشدّ من أزره، وتبني وعيه، وتفتح الأبواب للقاءاتٍ تُنعش العقول وتُعمّر الأرواح.
بارك الله في جمعية تواصُل، وفي رجالها وضيوفها، وفي كل يدٍ تمتد لخدمة المجتمع وإعلاء شأن المعرفة.